فصل: قوله تعالى: {وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} (278):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} (275):

والربا في اللغة هو الزيادة.
وربما لا تعرف العرب بيع الدرهم بالدرهم نساء ربا، إلا أن الشرع أثبت زيادات جائزة، وحرم أنواعا من الزيادة، فجوز الزيادة من جهة الجودة، ولم يجوز من جهة المدة.
وإذا اختلف الجنس، يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا نقدا، ولا يجوز متماثلا نسيئة.
وكل ذلك لا يقتضيه لفظ الربا، ولكن ذلك لا يمنع التعلق بعموم اللفظ، وعموم اللفظ يقتضي تحريم الزيادة مطلقا، إلا ما خصه الشرع.

.وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}:

يقتضي جواز ما لا زيادة فيه، إلا ما خصه دليل الشرع، فنحن نحتاج إلى البيان فيما لم يرد باللفظ، وما دل عليه اللفظ محرم مع غيره، فلابد من بيان في الذي ما أريد باللفظ، وفي تخصيص بعض ما أريد باللفظ.
واللّه تعالى حرم الربا، فمن الربا ما كانوا يعتادونه في الجاهلية من إقراض الدنانير والدراهم بزيادة.
والنوع الآخر تحريم الإسلام الدراهم في الدراهم والدنانير من غير زيادة.
ورأى ابن عباس، أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب اللّه ربا النساء، لا ربا الفضل فإنه قال: {فَلَهُ ما سَلَفَ}.
{وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} (278) وقال: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} (280) وقال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (279):
وقال عليه السلام في خطبة الوداع: «كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى اللّه أن لا ربا، وإن العباس بن عبد المطلب موضوع، وإن كل دم كان في الجاهلية فإنه موضوع، وأول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل».
وإن كان الربا ينقسم أقساما، فالذي في القرآن يدل على تحريم الزيادة، من غير نظر في جنس المال وما يقابله، ولا دلالة فيه على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، لأن ذلك لا يعد زيادة في النسيء، ولا يقال: أكل الربا، ومن أجل ذلك جوز بعض العلماء- وهو مالك- الأجل في القرض، إلا أنا منعنا من ذلك، لا من جهة الآية، بل من جهة أخرى.
والذي كان في الجاهلية كان القرض بزيادة، وما كانوا يؤجلون إلا بزيادة في نفس النسيء.
ونقل عن الشافعي، أن لفظ الربا لما كان غير معلوم، أورث احتمالا في البيع، والصحيح أن الربا غير مجمل، ولا البيع كما ذكرناه، فإن ما لا زيادة فيه، جاز على عموم حكم البيع.
نعم خص من الربا زيادة أبيحت، وخص من البيع بياعات نهى عنها، وعموم اللفظ معتبر فيما سوى المخصوص.
ورد اللّه تعالى على المشركين في قولهم: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} (275)، وذلك أنهم زعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا، وبين الأرباح المكتسبة بضروب البياعات، من حيث غاب عنهم وجه المصلحة، وتحريم الزيادة على وجه دون وجه، فأبان اللّه تعالى أنه عز وجل إذا حرم الربا وأحل البيع، فلابد أن يشتمل المنهي عنه على مفسدة، والمباح على مصلحة، وإن غابتا عن مرأى نظر العباد، فعلى هذا كل ما وجد فيه حد البيع، فيجوز أن يحتج فيه بعموم البيع.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ} (275):
يدل على أن ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا، لا يتعقب بالفسخ، ويدل على أنه أراد غير المقبوض.

.قوله تعالى: {وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} (278):

ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا، وإن كان معقودا عليه قبل نزول آية التحريم، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا.

.وقال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ} (279):

وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه، فإذن رأس المال الذي لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء على ذلك، على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا، ثم أحرم المشتري قبل القبض، أو البائع، بطل البيع، لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل اللّه تعالى من الربا ما لم يقبض، لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر، هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي.
ويستدل به على أن هلاك المبيع في يد البائع، وسقوط القبض فيه، يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف.
ويروى هذا الخلاف عن أحمد.
ويمكن أن يقال إن هذا الاستدلال، إنما يصح على رأي من يقول إن العقد في الربا في الأصل كان منعقدا، حتى يقال: إن الذي انعقد من قبل بطل بالإسلام قبل القبض، فإذا منع انعقاد الربا في الأصل، لم يكن هذا الكلام صحيحا.
وهذا لأن الربا كان محرما في الأديان، وما كان تحريمه في شرعنا حتى يقال كان مباحا من قبل.
وإنما حرم بعد العقد، ليصح الاستدلال بطريان المنافي من التحريم على فساد العقد قبل القبض، وانبرامه بعض القبض.
فأما إذا قلنا إن العقد لم ينعقد من الأصل، والذي فعلوه في الشرك كان على عادة الجاهلية، لا بناء على شريعة، فلا يستقيم هذا الكلام، بل يقال: ما قبضوه منه، كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالنهب والسلب، فلا يتعرض له، فعلى هذا لا يصح الاستشهاد به على ما ذكروه من المسائل.
واشتمال شرائع من قبلنا من الأنبياء على تحريم الربا، كان مشهورا ومذكورا في كتاب اللّه، كما أخبر عن اليهود في قوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}.
وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا}؟
فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به.
نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب، إذا ظهر عليها الإمام، لا يعترض عليها بالفسخ، وإن كانت معقودة على فساد.
وبالجملة، فإنه تخللت مدة طويلة بين نزول الآية وبين خطبة النبي عليه السلام بمكة، ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا من عقود الربا بمكة، قبل أن تفتح، ولم يميز بين ما كان منها قبل نزول الآية وما كان بعدها.
ويمكن أن يستدل به على أن الأنكحة التي جرت في الشرك، لا تتعقب بالنقض بعد انبرامها كما في البيع بعد الانبرام.
قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} (280) عام في الربا وغيره من الديون.
إلا أن الربا يكون في رأس المال، لأن اللّه تعالى جعل لهم رأس المال، فقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ}.. وفي غير الربا حكمه بين.
وكان شريح يرى حبس المعسر في غير الربا من الديون، ويرى أن الإنظار مخصوص بالربا.
فإن كان معتقدا لوجوب الزيادة على رأس المال في الربا، وأنه يجب فيه الإنظار بعد التوبة، فهذا خلاف الإجماع، وإن كان يقول في رأس المال يجب الإنظار فإنه واجب، وفي غيره من الديون الواجبة لا يجب الإنظار فهو غلط، فإنه لا فرق بينه وبين غيره من الديون، بحال، بعد أن جعل اللّه تعالى له رأس المال بعد التوبة.
نعم إن اللّه تعالى ذكر الإنظار بعد ذكر الربا، وذلك لا يمنع من التعلق بعمومه في الديون كلها.
وقوله: {فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} مع قوله: {فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ} يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين، وجواز أخذ ماله بغير رضاه.
ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان، كان ظالما، فإن اللّه تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ} فجعل له المطالبة برأس ماله، وإذا كان له حق المطالبة، فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.
وقوله: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} يدل على أن من عليه رأس المال بالامتناع من أداء رأس المال إليه ظالم، كما أنه بطلب الزيادة ظالم، وأن الممتنع من أداء رأس المال إليه ظالم مستحق للعقوبة وهي الحبس.

.قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (282):

فقد ذهب بعض علماء السلف: إلى وجوب الاشهاد فيما قل وجل، وفيما حل وأجل من الديون، واليه ذهب أبو داود وابنه أبو بكر، ورووا عن ابن عباس أنه قال لما قيل له إن الدين منسوخة فقال:
لا واللّه بل آية الدين محكمة ما فيها نسخ.
وروي عن أبي سعيد الخدري والشعبي والحسن، أن الاشهاد في آية المداينة منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} (283).
فاختلفت الأقوال على ما ترى، فنقول وباللّه التوفيق.
إن قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} لم يتبين تأخر نزولها عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالاشهاد، بل وردا معا، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة، فدل ذلك على أن الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يزيده وضوحا أنه قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ومعلوم أن هذا الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم، لا على وجه الحقيقة، وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع، فإنها لو كانت لحق الشرع ما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}.
ولا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة.
فالشهادة متى شرعت في النكاح، لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة، ولأن اللّه تعالى جعل لتوثيق الديون طرقا:
منها: الكتاب.
ومنها: الرهن.
ومنها الإشهاد.
ولا خلاف بين علماء الأمصار، أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد.
وما زال الناس يتبايعون سفرا وحضرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد لما تركوا النكير على تاركه.
ومعلوم أن الإنسان في غير البيع والشراء، قد يأتمن الرجل على ماله فلا يحرم عليه، ولو باعه شيئا وأسلفه الثمن، يجوز إذا ائتمنه على ثمنه.
فإذا ملك الإنسان الثمن بالبيع، فسواء ائتمن عليه المشترى أو اختلفا بعد استيفائه منه، فالكل واحد، وذلك يدل على أن الأمر بالإشهاد ندب.
وقد ظن بعض الناس أن قوله تعالى: {إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} دليل على جواز التأجيل في القروض على ما قاله مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر عقود المداينات، وهذا غلط منه، لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد، إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.

.قوله: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ} (282):

ظن ظانون أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان، أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع، حتى نسخه قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}.
وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان، وإنما كان ذلك على وجه آخر، وهو أنه من علم ذلك بينه لهما، وليس عليه أن يكتبه، ولكن يبينه لهما حتى يكتباه أو يكتبه لهما أجير أو متبرع بإملاء من يعلمه، كما لو استفتيناه في صوم أو صلاة تطوعا أو فرضا، فعليه بيان الشريعة في ذلك، فهذا مثله، ولو كانت الكتابة واجبة، لما صح الاستئجار عليها، لأن الإجارة على فعل الواجبات باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز الإجارة على كتب كتاب الوثيقة.

.قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ} (282):

نهى الكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر اللّه به، وهذا النهي على الوجوب، إذ المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع، كما لا يصلي النفل بغير طهارة وستر، لا لوجوب النفل، ولكن لأنها إذا أديت فلا يجوز أداؤها إلا بشروطها.

.قوله عز وجل: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}:

عند الحكم بما أقر به على نفسه.

.وقوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}:

فيه دلالة على أن من أقر لغيره بشيء، فالقول فيه قوله، لأن البخس هو النقص، فلما وعظه في ترك البخس، دل على أنه إذا بخس كان قوله مقبولا.
وهو مثل قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} لما وعظهن في الكتمان، دل على أن المرجع في ذلك إلى قولهن.
ومثله قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فدل على أنهم متى كتموها، كان القول قولهم فيها.
وكذلك وعظه الذي عليه الحق في تركه البخس، دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه»، فجعل القول قول المدعى عليه دون المدعي، وأوجب عليه اليمين، وهو معنى قوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} في إيجاب الرجوع إلى قوله: